إشراق النهدية*
تتقاطر على مسمعيّ نقرات حادة، وشوشة تأتي كرذاذ فاتر على النعاس الذي يحتل مقلتي المسترخية. أنصتُ إلى أحذية ذات وقع سريع تطقطق الأرضية. خطوات قلقة فارة من تآكل الوقت. سرير فاخر أرقد عليه، سحبني إلى عالم غارق من الخمول. يآاااه، لم أعتد هذا الترف الباذخ من قبل ولكن سأحاول التآلف مع المعطيات هنا.. يبدو أنّ الجميع غادر إلى وجهته الآن، انسحبوا تاركين لي فراغاً هائلاً يسكنني بحجم البيت الذي أسكنه، وها أنذا كديك الصباح بنشاطه، صاح إثر خطوات تنسحب وأبواب تُغلق مشرعة خلفها فسحة للفراغ باقٍ دونهم، يتنسم الوحدة وأنا أشاطره تلك الأنسام. أصبحتُ كائناً فريداً أشغلُ مساحةً ضخمة، يمكنني أن أتقولب داخل كل الأشكال المتوافرة هنا، وكما يتسنى لي أن أسيح على أي مساحة أنساب عليها وذلك حسب مزاجي الحر في كل بقعةٍ متاحة. يمكنني احتلال مساحات شاسعة، وشغلها منفرداً من دون شريك إلا ذاك الفراغ يشدو ألحان الوحدة ويسكبها في داخلي طازجة.. يا للرهبة. يغدو الفراغ مرعباً عندما لا يبقى لك عمل سوى أن تشغله بكيانك، يجب أن تخفف وطأته عليه وعليك بحضور مجد يليق بفراغه ويلائم وجودك البهي.
كيف أبدأ يومي؟ امممم، حسناً، سأستيقظ وأشغل المطبخ أوّلاً، سأحضر "نسكافيه" منعشاً لأطرد ما تبقى من غفوة تزحف على أجفاني الذابلة.. ولجتُ إلى المطبخ، بدا لي ضخماً فسيحاً، شغلتُ مساحة ضئيلة، لم أقوَ التأثير على فراغه، بل أحسستُ بحيزه الذي ابتلعني من دون تردد. هرعتُ إلى الصالة شارداً من بلعوم الوحدة، اندهشت من خدر يسري فيها ويبعث سكرته من جدران الفراغ. يضمني الفراغ أينما أحط أو أقع. يا للعجب.
هناك الفراغ يعمّر المكان بأذياله المتشعبة، وها هو يقتفي أثري إلى هنا أيضاً بأذرعه الأخطبوطية. أرضية الصالة تفوح برائحة النظافة العارمة، وسائل الـ"ديتول" الذي لعق كل ذرة وساخة كان لها أن توجد طبيعياً. قل من يجلس هنا، أستغربُ من كبر حجم المنزل وقلة سكانه. يا ترى، لماذا يقتنون بيتاً ليس لهم القدرة على إشغاله؟ لم آلف بيت خالتي كبيتنا المكتظ ذاك الذي في القرية، أستأنس الزحام وضجة الأنام، أحسُ بالحضور والحياة معاً وأنا مبعثر بين الكم الكبير من أفراد عائلتي الممتدة. بيتنا صغير، يؤوي شرذمة من أشكال وطباع مختلفة لبشر منفردين تختلط أنفاسهم فتختنق بهم الأمكنة، ومع ذلك، أستلذ ذاك الضيق بسعة قلوبهم المنشرحة، بينما هنا كل شيء معد للملل ومهيأ للضجر. فأصحاب البيت يدخلونه للنوم فقط من دون أن يتبادلوا الود والأحاديث الدافئة. وازدحام الغرف بالأثاث، لا يشي إلا على أنه ديكور للعرض، بينما الاكسسوارات الموزعة لا تزيد على كونها تكميلية للرفاهية ليس أكثر. وأغلب الأحيان البيت فارغ من سكانه، فخالتي وزوجها يغادران للعمل باكراً ويعودان بعد الساعة الرابعة، بينما يرجع ابن خالتي وأخته في الساعة الثانية تقريباً. أما أنا، فأجلس بمفردي أحتسي الكسل وأتشرب وطأة الدقائق التي تمر بتثاقل لم أعهد له مثيلاً. وها أنا اليوم مفلسٌ تماماً من أي التزام لي، وخالٍ من أي مقابلات عمل، تلك التي سأجريها من أجل الالتحاق بالوظيفة في هذه المدينة المرقطة بالوحشة. إذا حدث ونلتُ وظيفة، كيف سأتعايش بكل هذا الفراغ الموحد، لا أدري.
نظرتُ إلى ما يمكنه أن يثير فضولي لأفعله أو أتسلى به، فتحتُ التلفاز. لا يبدو أن أحداً ما يستعمله، فقد خلا من القنوات المبرمجة. جلستُ على الـ"صوفا" باسترخاء، سحبتُ قدمي أمدهما أمامي وأعبث بالوقت حاسباً أصابعهما وكأني أجهل عددها، استرخاء تام وجنون مبدع فاض عليّ وانهمر. سأعُد شيئاً آخر عدا أصابع قدميّ، ربّما سأحاول أن أحصي كم رمشة تحدث في الثانية؟ لا.. لا أظنها فكرة سديدة. بل سأستكشف الموجود قربي. مسحتُ تضاريس الصالة باحثاً عن إغراء يعلق بفضولي. لم أهتد إلا إلى سكون موحش يعتليني، لم يعق هدوئي شيء إلا ذاك الكرسي القابع أمامي، لا أدري من أين انبثق فجأة من جدار الوحدة. فارغ كفراغي، فارغ كفراغ البيت بأسره. بل إنّه بفراغ الحياة المهولة بأكملها.
هناك رجل وامرأة يديران ظهريهما للكرسي ويمشيان بمنأى عنه من دون اكتراث. يا ترى، كيف يتأتى لهما أن يتركاه هكذا، شاغراً من دون الجلوس عليه وشغله؟ ذاك الكرسي يحرق وحدتي ويشعلها من رماد الرغبة، إنّه يمنن عليّ بغواية المشاطرة، إذا جلستُ عليه سأشغله ويشغلني لا محالة. أمامه برج كبير، ومن الخلف، هناك بحيرة ذات هوة تشعل رغبة الاندفان غرقاً لمن يئس. يا لهذه الفكرة المهووسة. هل للكرسي قدرة بعث كل هذه الأفكار؟ لا بالتأكيد، سأنشغل بمطالعة مجلة وأتعامى عن وجوده هنا من الأساس، فهذا أسلم لي. لكنه ما يلبث أن يطوقني، وأنا أداري لهفتي في امتطاء ذاك الكرسي، مازلتُ مستغرباً كيف يمكن لمن مر من أمامه ألا يقعد عليه. وتلك البحيرة كالجمرة، حمراء تمتص بقايا شفق شمس راحلة، سأدس وجهي في مجلتي وأتغاضى عن ذاك الكرسي. لكن فراغه يرصد رغباتي ويرسم لي وجهتي المرغوبة فيه، كم هو مخزٍ أن أكون عارياً من مشاعر أتصنعها عبثاً. فجأة، ظهرت نقطتان تتركزهما بؤرة مضيئة في وسط الكرسي، ما لبثت أن تحولت إلى عينين تشبهان عينيّ ولكنهما حادتان تلمعان كعيني قطة متسمرة أمامي ترشقني شرراً، متوغلة فيّ تتلصص علي وتقلص حريتي. أصبحتُ منحسراً في رقعة ضيقة بالكاد أقوى التنفس، التقلص جاثم على حركتي، بت طبقاً شهياً يلتهمني الفزع، غدوتُ سجيناً لتلك العينين وذاك الشعور المتواطئ مع الكرسي، شعرت بأني أنزلق في الهوة السحيقة للبحيرة خلف الكرسي الفارغ. خفقان وارتعاش يلوي صوتي، أتصببُ عرقاً كما أتصببُ الذعر، أقع فريسة للسطوع الذي يخرق جسدي. هناك حرارة تنبعث من البؤرة العينية تلك، أغلقتُ عينيّ لبرهة، استجمعتُ شتات أمري من دون تماطل، تعاميتُ عن رؤية الكرسي، ولكن في الوقت ذاته حملته ثمّ ألقيتُ به خارجاً في الفناء الخلفي للبيت. استكنتُ قليلاً، أنهيتُ صراعي مع نفسي ومع كل شيء، أطبق عليّ الهدوء الآن، خلقتُ ألفة مع الكتاب وانصرفتُ بين جُمله أقرأ. غلف الاطمئنان وجهي.
سمعتُ الباب يُفتح، عادتْ ابنة الخالة، ولجتْ الصالة حيث كنتُ متمدداً، رمتْ الحقيبة المدرسية وتمددتْ مثلي على الـ"صوفا" التي بجانبي تناظر الحائط قبالتها، زفرت تنهيدة ذعر: "أووه، أين هي صورة القطة التي كانت مثبتة هنا؟".
رددتُ عليها مندهشاً: وهل كانت قطة؟ ابتسمت لي برضا لا ينم عن الانزعاج قائلة: "جيِّد أنك خلعت تلك الصورة من مكانها، فهي متشبثة هناك منذ اشترينا هذا البيت، يأبى الكل أن يلمسها، ولا تروق لي بتاتاً، بل تتشبح أمام ناظري كلما دخلت الصالة".
وقت العشاء، جلس الجميع يتناولون الطعام، دخل زوج الخالة متسائلاً: "أين لوحة الطفلة ذات العينين الجاحظتين؟".
علّقت ابنته متفاجئة: "وهل كانت طفلة؟".
رد ابنه بعصبية: "إنها صورة قبيحة لخفاش أو ربّما وطواط".
أجابتْ خالتي ضاحكة: "بل هي صورة بومة.. الله يهديكم جميعاً".
وبقيتُ أنا مستمعاً، تكتسحني رغبة مُلحة لإلقاء نظرة مجددة على اللوحة الملقاة في الفناء الخلفي للمنزل.
*كاتبة من سلطنة عمان
ارسال التعليق